حاوره موسى متروف
حراك الريف وما أعقبه من تفجّر الأوضاع بمدينة الحسيمة ونواحيها وحملة الاعتقالات التي شهدتها المنطقة يحتم قراءة متأنية للصورة، بعمق علمي أكاديمي، أدواته مستمدة من علم الاجتماع الحضري المواكب للحركات الاحتجاجية.
وليس هناك أفضل من عبد الرحمان رشيق، الحاصل على دكتوراه في الجغرافيا الحضرية من جامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء (1998) ودكتوراه السلك الثالث من جامعة ليون الثانية (1985) ، فضلا عن دبلوم في علم الاجتماع من الجامعة ذاتها بليون (1982)، ليفكك ما وقع واستشراف المستقبل في منطقة الريف التي توجد على صفيح ساخن.
وبعد أن ألف كتابي "المدينة والسلطات في المغرب" (1995) و"الدارالبيضاء، تعمير الاستعجال" (2002)، ومجموعة من التقارير والمقالات حول المسألة الحضرية والحركات الاحتجاجية في المغرب،أصدر عبد الرحمان رشيق كتاب "المجتمع ضد الدولة – الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع في المغرب"، حيث يحلل الحركات الاجتماعية للوقوف على مسلسل التغيير الاجتماعي وطبيعة العلاقة التي تربط بين الدولة والمواطن.
وبعد الوقوف على تصاعد الاحتجاجات منذ 2005، حيث تضاعفت 26 مرة في عهد حكومة عبد الإله بنكيران، يخلص الباحث إلى أن السياسات العمومية في سعيها إلى الإدماج الاجتماعي والمجالي لساكنة هشّة، تحقق نتائج عكسية. على اعتبار أنها تغذي الآمال وتُضاعف الانتظارات الاجتماعية والمطالب الجماعية...
في هذا الحوار، يناقش "مواطن.كوم" مع الأستاذ رشيق أبعاد حراك الريف والطريقة التي تعاملت به الدولة معه، في سياق عام يطرح خصوصية المنطقة وأيضا مراكمة تجربة السلطات العمومية في التعامل مع الحركات الاحتجاجية.
ماهي في نظركم خصوصيات حراك الريف بالمقارنة مع الاحتجاجات التي تعرفها المملكة في مناطق أخرى؟
يتسم الاحتجاج في الوسط القروي بسمات أكثر ارتباطا بالتضامن الترابي وللغوي والانتماء إلى الجماعة أو القبيلة أو العشيرة. فالمواطنون من خلال احتجاجهم في منطقة الريف يعبرون عن أنفسهم كعشيرة (communauté) تقليدية مبنية على اللغة المشتركة وروابط قبلية وعلاقات الدم والقرابة وعلاقات الجوار، وتاريخ قريب وأليم مشترك لا زال يهيمن على أذهان الريفيين. فالذاكرة والخطاب الاحتجاجي مليء بحمولات تاريخية تمجد الغاضبين والمتظاهرين كالرجوع باستمرار إلى حرب الريف ومقاومة الريفيين وعلى رأسهم الزعيم عبد الكريم الخطابي، وهناك حمولة تاريخية أخرى تعبر عن الحگرة التي نهجها النظام السياسي منذ سنة 1958 وتقدم المحتجين الريفيين كضحية للسياسات العمومية التمييزية التي همشتهم اجتماعيا واقتصاديا وعزلتهم جغرافيا عن باقي مناطق المغرب.
الريفيون كعشيرة لم يحتجوا على هذه الوضعية المزرية بصفة منتظمة وسلمية ومستمرة (منذ مقتل محسن فكري) وكثيفة إلا بعد وضع مشاريع كبرى مهيكلة في الشمال وبعد الإعلان عن انطلاق مشاريع كبرى سنة 2015 هدفها إدماج منطقة الريف جغرافيا واجتماعيا. فالإحساس الجماعي بالحگرة أو بالحرمان والتعبير عنه في المجال العام يغذيه الشعور الجماعي بالأمل وبإمكانية التغيير على مستوى وضعيتهم الاجتماعية المزرية. فالحرمان هو حالة من التوتر، ورضا مُتوقع لكن يُرفض، ولا يتحقق. هذا الإحساس هو الخطوة الأولى للتمرد أو المظاهرات الكثيفة التي فجرها مقتل محسن فكري. ففي هذه القرينة لعب ناصر الزفزافي دوره في تعبئة الاحتجاجات الاجتماعية التلقائية (ولكن ليس على تنظيمها)، حول مصالح اجتماعية بتعبئة وتفعيل العوامل الترابية، والإثنية والرمزية والدينية، لأن الطبيعة تكره الفراغ، وعدم حضور قوي للنسيج الجمعوي وللمنظمات السياسية والنقابية ظهرت مجموعة الزفزافي كمتزعم للحراك. فمحاولة تنظيم الغضب الجماعي وظهور الزفزافي وأصدقائه جاء بعد استمرار التظاهرات في الشارع العام.
لقد وضع منظرو الحرمان القاعدة السوسيولوجية التالية: "عندما يكون الناس في حالة من اليأس والبؤس الشديدين، فإنهم غالبا ما يكونون أقل نزوعا إلى التمرد، لأنهم يكونون حينئذ بدون أمل... وحين تتحسن وضعياتهم بعض التحسن، ويكون لديهم شعور بتغير محتمل، إذ ذاك فقط يتمردون تمردا فعليا ضد القمع والجور. إن ما يفجر العصيان لهو الأمل وليس فقدانه، لأن الأمل هو الذي يبعث الثقة، وليس التألم المكتئب".
فمنطقة الراشيدية وهي أفقر منطقة في المغرب لم تعرف أي غضب جماعي على الرغم من وجود عزلة جغرافية واجتماعية كبيرة وتفاقم تهميشها مقارنة بالمناطق الأخرى التي تحظى بسياسة عمومية ديناميكية نسبيا.
كيف تنظرون إلى الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع أحداث الحسيمة؟
لابد أن نسجل وبافتخار كبير سلمية الحركات الاجتماعية في الريف لمدة 7 أشهر وذلك بدون تنظيم من جهات معينة سياسية أو غير سياسية. لذلك أتحدث على هذا الغضب الكثيف كرد عفوي وعاطفي جماعي مباشرة بعد مقتل محسن فكري. فبعد مشاهدة الفيديو الفظيع لهذا المواطن البريء على الشبكة العنكبوتية لقي تعاطفا كبيرا داخل منطقة الحسيمة وخارجها.
ولا بد كذلك أن نسجل سلمية القوات الأمنية على الرغم من الانفلاتات التي تقع من حين لآخر من طرف بعض رجال الشرطة وكذلك من طرف بعض المحتجين. لكن يمكن القول إن الطابع العام هو السلمية التي طبعت هذا الحراك. بالطبع لا يخلو التدبير السياسي للمرحلة من هفوات وكان من الممكن تجنب بعض ردود الأفعال التي زادت من تفاقم الأزمة بين الحراك والدولة. فالأحزاب السياسية بدل أن تلعب دور الوسيط لإنهاء الصراع الاجتماعي كما لعبته من قبل، عملت على تأجيج الصراع بالحديث عن الانفصال وأياد خارجية والفتنة وكذلك الخرافة... مما أدى إلى المزيد من فقدان الثقة في كل المنظمات السياسية والنقابية والمجتمع المدني.
الاعتقالات التي شنتها الدولة على متزعمي الحراك كان بالإمكان تجنبها لتجنب النتائج العكسية وهي تأجيج الصراع الاجتماعي، ليس فقط مع منطقة الريف لكن مع باقي أجزاء المغرب. اللهم إذا كان الزفزافي وأصدقاؤه يمثلون خطرا على الوضع الأمني الداخلي. وإذا كان كذلك يجب إشعار الرأي العام وتقديم الحجج التي دفعت الشرطة بإيقافهم. فنحن لا نملك أية معلومة في هذا الصدد حتى نتمكن من تقييم هذا الوضع الشاذ.
فيمكن معاتبة أجهزة الدولة و الأحزاب السياسية كذلك على سكوتها وضعف تواصلها مع الرأي العام. ويبقى المغرب يعيش على الإشاعات وبعض المعلومات المسمومة التي يتم تمريرها في الشبكة العنكبوتية. فنسمع بوجود الجزائر وإيران وإسرائيل وبارون الحشيش و"داعش" وجمعيات أجنبية بأروبا تمول الحراك، ووو... ففي وضع شاذ كهذا يجب على أجهزة الدولة أن تقدم المعلومات التي تملكها حول الفاعلين والمعبئين للحراك، وإلا فإن الاعتقالات تبقى تعسفية والكل يتمنى القطع مع ماض ألّم الكثير من المواطنين المغاربة.
فمنذ الانتفاضات الحضرية لسنة 1981 و1984 و1990، أصبح التدبير السياسي للصراعات الاجتماعية يبتعد عن المعالجة القمعية كوسيلة وحيدة للحفاظ على الأمن العام. فبدأت مخططات التعمير والتهيئة كمحاولة لضبط السكان والمجال، تلتها مشاريع سياسية كبرى مع الملك الجديد لتصالح الدولة مع المجتمع وبدأت مشاريع أخرى كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومشاريع السكن الاقتصادي والبنيات التحية...
فهناك أربعة مشاريع كبرى ماتزال قيد الإنجاز تثير الانتظارات والآمال لدى ساكنة تعيش في ضواحي المدن، وفي المناطق القروية المعزولة: الشبكات الطرقية، سياسة السكن الاجتماعي، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والأنظمة الجديدة للتغطية الصحية. ينعكس أثر التركيز الشديد لوسائل الإعلام على المشاريع التي دشنها الملك في مختلف جهات المغرب، والوعود التي قدمت ولم تتحقق، على تنظيم الاحتجاج الاجتماعي وتحريكه.
لكن يبقى معدل البطالة وبطالة الشباب في تفاقم مخيف في الريف وفي جميع مناطق المغرب.
هل ما زلتم تعتبرون أن الدولة اكتسبت خبرة في التعامل مع الاحتجاجات، في ظل سقوط جدار الخوف؟
نعم. منذ الانتفاضات الدموية لسنوات الثمانينيات، اكتسبت الدولة وفرق الشرطة خبرة في مواجهة الغاضبين، فهناك اقتناع بأن القمع وحده يؤدي إلى نتائج عكسية. ونلاحظ كذلك عدم تدخل الجيش كما كان في السابق (سنوات الثمانينيات)، فهذا معطى مهم يدل على الاستقرار الأمني في البلد.
في المقابل، لقد اسُتغل سلوك الأجهزة الأمنية في سنة 2011 من طرف بعض المواطنين ("الفرّاشة" مثلا) لاحتلال المجال العام والشوارع والأزقة.
فأجهزة الدولة كانت محايدة في ما سمي بـ"الربيع العربي"، وكانت في غالب الأحيان تقف ضد ما يسمى بـ"حركة الشباب الملكي" لكي لا يقع المغرب في حرب مدنية. من جهة أخرى، كان هناك منتخبون محليون يساندون ويدعمون هذه الحركة المضادة لحركة 20 فبراير. فالانفلاتات الأمنية في بعض الأحيان قد تكون عادية.
لقد نجح المغرب في غرس عادة الاحتجاج الاجتماعي السلمي في الفضاء العمومي، بداية من النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. لقد حلت الوقفة، والمظاهرة، والمسيرة، محل التمرد. وما يجري الآن في منطقة الحسيمة لخير دليل على ما أقوله. فعلى الرغم من إننا أمام مظاهرات غير قانونية، فالحراك مستمر لعدة أشهر دون أن نسجل أي ضحايا أو تدخل قمعي لهذه المظاهرات التي تقام بدون ترخيص وبدون إشعار لمدة شهور لأنه ليس هناك أي مسؤول على الحراك.
لكن مع حكومة عبد الإله بنكيران تغيرت الأمور بعد حركة 20 فبراير (سنة 2011). بعد فترة التساهل المرتبطة بـ"الربيع العربي"، سعت الحكومة الجديدة، الحريصة على تطبيق القانون، والتي نتجت عن الفوز في انتخابات 2011، إلى إظهار قوتها القمعية، وقدرتها على الحفاظ على العودة السريعة إلى النظام وضمانه، في وجه استراتيجية بلبلة النظام العمومي وتشويشه ("التبرزيط")، التي نهجتها بعض الحركات الاجتماعية. طالبت الحكومة الجديدة بتطبيق القانون، حتى ولو باتخاذ إجراءات تبدو في أعين المجتمع لاشعبية. من ذلك، مثلا، الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين، وذلك بالرغم من الاحتجاجات المتعددة للنقابات، وكذا القمع العنيف للمتظاهرين الذين لم يحصلوا على ترخيص إداري مسبق، إلخ...
ويمكن أن نذكر، على وجه الخصوص، الموقف الصارم الذي اتخذته الحكومة الجديدة تجاه حملة الشهادات العليا المعطلين الذين كانوا يطالبون بتطبيق "محضر 20 يوليوز 2011" الموقع من قبل الوزير الأول السابق عباس الفاسي بالنسبة لميزانية 2012. يلوم حملة الشهادات العليا المعطلون الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية على عدم احترام المبادئ الأساسية لالتزام الدولة. ولقد صرح رئيس الحكومة عبد الإله بنكران بأن "محضر 20 يوليوز" غير دستوري، وغير مطابق لقانون الوظيفة العمومية، لأنه يخرق مبدأ المساواة بين المواطنين في ولوج الوظيفة العمومية.
والآن يظهر، من خلال السلوك السياسي للدولة تجاه غضب المواطنين بمنطقة الحسيمة وبعض المدن المغربية وبعد اعتقال بعض زعماء الحركة الاحتجاجية، بأن هناك تردد (بين من مع وضد التدخل العنيف) في أجهزة الدولة بعد تعثر آليات الحوار وعدم نجاح أية وساطة سياسية بين الدولة والغاضبين. فلا أرى إلا الحوار كحل في الأفق، فالمزايدات من طرف المحتجين وأجهزة الدولة لا يؤدي إلا للتطرف والعنف المميت. وهذا ما لا يتمناه أي مواطن يحب المغرب والمغاربة. فأية ضحية ستفسد كل ما بناه المغرب منذ سنوات.
كيف تنظرون إلى التطور التاريخي للمطالب في الاحتجاجات، بين ما هو عام سياسيا، أو اجتماعيا، إلى ما هو خاص بمنطقة أو بموضوع محدد؟
لقد كتب المفكر الفرنسيAlexis de Tocqueville في أواسط القرن التسع عشر أن ليس الانتقال من سيء إلى أسوأ هو الذي يؤدي دائما إلى الثورة. ما يحدث في كثير من الأحيان أن الناس الذين كانوا يعانون من القوانين الأكثر قمعية دون شكوى، وكأنهم لا يشعرون بها، يرفضونها بعنف بمجرد ما يخف وزنها. فالنظام الذي تدمره الثورة يكون تقريبا دائما أفضل من ذلك الذي سبقها مباشرة، وتعلمنا التجربة أن أخطر لحظة بالنسبة لحكومة سيئة هي عادة الوقت الذي تبدأ فيه بالإصلاح.
كانت حالات الفقر المجتمعي والإقصاء المجالي تُعاش من قبل السكان باعتبارها حالات "طبيعية". لا ننسى آثار صيرورة الانفتاح السياسي للمغرب منذ عدة سنوات ونهج سياسة عمومية تجاه هذه المنطقة المهمشة على الغضب الجماهري الحالي. والنتيجة التي تترتب عنهما هي أنها تغذي الأمل وتضاعف الانتظارات المجتمعية. فالتدخلات التي تقوم بها الدولة لصالح مناطق معزولة ومهمشة، تخلق الشعور بالتمييز لدى سكان مناطق أخرى تعاني من نفس الصعوبات. إن هذا التدخل يولد الشعور بحرمان نسبي. وهذا الحرمان النسبي يشعل حماسة الفاعلين المعبئين، ويثير حمية السكان الذين تغذوا بالأمل في تغير ممكن وأيام مشرقة. فالحرمان النسبي والأمل في التغيير هو الدافع الأول إلى بروز حركات اجتماعية ضخمة.
05 décembre 2022 - 17:00
05 août 2022 - 10:00
29 juin 2021 - 17:30
05 mai 2021 - 11:30
15 mars 2021 - 22:01