الدكتور عمر لمغيبشي/ مؤرخ
ليست الكتابة التاريخية مجرد استعادة لوقائع ماضية، بل هي فعل تأويلي معقّد يتقاطع فيه الزمان بالخطاب، والسلطة بالمعنى. ومنذ أواخر القرن العشرين، دخلت هذه الكتابة في أزمة معرفية ومنهجية عميقة، ترافقت مع التشكيك في السرديات الكبرى (métarécits) التي كانت تؤطر الرؤية الحداثية للتاريخ. فقد بات يُنظر إلى التاريخ، لا كمسار موضوعي ذي غائية عقلانية، بل كمجموعة من السرديات المتنازعة التي تُنتجها السلطة والذاكرة واللغة. هذا المقال يسعى إلى تفكيك مفهوم المتارواية كما تبلور في فكر ما بعد الحداثة، وتحليل انعكاساته على أزمة التأريخ، بالاستناد إلى إسهامات ليوتار، هايدن وايت، بول ريكور، كارلو غينزبورغ، فوكو، وهاراري.
المتارواية: المفهوم والسياق
ظهر مفهوم المتارواية بوضوح مع الفيلسوف الفرنسي جان-فرانسوا ليوتار في كتابه La Condition postmoderne (1979)، حيث عرّفها بأنها “السرديات الشاملة التي تضفي الشرعية على المعرفة أو السلطة من خلال ادعاء تفسير كلي وشامل للواقع والتاريخ”. ومن أمثلتها: سردية التقدم العقلاني، سردية الثورة الماركسية، سردية الحداثة الأوروبية، والسرديات الدينية الكونية.
ووفق ليوتار، تتميز الحداثة بإيمانها بهذه السرديات الكبرى، بينما يتميز الفكر ما بعد الحداثي باللا-ثقة تجاهها، وبالتشكيك في قدرتها على احتواء تعقيد التجربة الإنسانية. هذا التفكيك ليس إنكارًا للماضي، بل دعوة إلى الاعتراف بتعدديته، وانكساراته، وأصواته المُقصاة.
الكتابة التاريخية والسرديات الكبرى: من الشمول إلى التعدد
كانت الكتابة التاريخية التقليدية، كما ظهرت في القرن التاسع عشر، مؤسسةً على افتراض أن للتاريخ معنى كليًّا، ومسارًا عقلانيًا، يمكن للمؤرخ أن يكشف عنه عبر الوثيقة والتحليل. هذا ما نجده بوضوح في المدرسة الوضعية وفي سرديات المؤرخين القوميين، حيث يتم تحويل الماضي إلى تسلسل منطقي يخدم بناء الهوية الوطنية أو الوعي الطبقي أو المشروع الحداثي.
غير أن هذا المنظور سرعان ما تعرّض لنقد عميق من طرف فلاسفة ومؤرّخين مثل هايدن وايت، الذي اعتبر في كتابه Metahistory (1973) أن كتابة التاريخ هي عمل سردي يتضمن اختيارات بلاغية وأيديولوجية، لا وصفًا “محايدًا” للواقع. فالتاريخ، بحسبه، ليس “ما حدث” بل “ما يُروى أنه حدث”.
أما بول ريكور، فقد قدّم من خلال مشروعه Temps et récit تصورًا للتاريخ قائمًا على المماثلة بين الرواية والتأريخ، حيث يشترك كلٌّ منهما في إعادة تشكيل الزمن عبر السرد. فالوقائع وحدها لا تتكلم؛ ما يمنحها المعنى هو التأويل الذي يُدخلها في بناء سردي يربطها ببعضها ويوجهها نحو غاية.
فوكو والسلطة المعرفية في سرد الماضي
أضفى ميشال فوكو بعدًا سياسيًا على هذا التحليل، حين بيّن كيف أن التاريخ يُنتج ضمن شبكات السلطة والمعرفة، وأن ما نعتبره “حقيقة تاريخية” إنما هو نتاج لخطابات مهيمنة تُقصي سرديات بديلة. ففي كتابه L’archéologie du savoir، يدعو فوكو إلى نبذ السرديات الخطية والتوقف عند “انقطاعات” التاريخ، أي تلك اللحظات التي تظهر فيها الفوضى، التعدد، واللامنتظر.
وبهذا المعنى، فإن المتاروايات ليست بريئة، بل أدوات للهيمنة الرمزية، تشرعن سلطات الحاضر من خلال بناء سرديات مقنّعة حول الماضي.
السرديات الجزئية والعودة إلى الهامش
كرد فعل على هيمنة المتاروايات، ظهرت اتجاهات في التاريخ تقوم على تفكيك السردية الرسمية وإبراز ما تم إقصاؤه منها. من أبرزها “التاريخ الجزئي” (microstoria)، كما تجلّى في أعمال كارلو غينزبورغ، الذي ركّز على أصوات المهمشين والهامشيين، مثل الفلاحين، النساء، أو “المنحرفين” دينيًا واجتماعيًا. ففي كتابه Le Fromage et les vers، حلّل تجربة ميلكيوري، فلاح إيطالي بسيط، باعتبارها مدخلاً لتفكيك تصور الكنيسة عن الحقيقة والمعرفة.
هذا النوع من التاريخ، القائم على الإنصات لما هو “صغير”، يكشف هشاشة المتارواية، ويُعيد الاعتبار للتعدد، والجزئي، والهامشي.
من نهاية المتارواية إلى فوضى السرديات
غير أن تراجع السرديات الكبرى لم يؤدِّ بالضرورة إلى انبثاق سرديات بديلة صادقة، بل فتح المجال أيضًا أمام سرديات زائفة تنتشر في وسائل الإعلام والمنصات الرقمية، تستغل ضعف الثقافة التاريخية لإعادة إنتاج الماضي في شكل أسطورة أو خرافة أو إيديولوجيا. هذا ما نبّه إليه يوفال نوح هراري في كتابه Sapiens، حيث بيّن أن البشر يتعايشون عبر “قصص مشتركة” تمنحهم الانتماء، لكنها قد تتحول إلى أدوات سيطرة إذا لم تُفكّك نقديًا.
وهكذا، باتت أزمة الكتابة التاريخية المعاصرة لا تقتصر على انهيار المرجعيات الكبرى، بل تشمل كذلك تضخم السرديات الشعبوية، والأسطرة، وتسييس الذاكرة، مما يستدعي تجديد أدوات المؤرخ، وتعزيز أخلاقيات النقد، ومساءلة الذات العلمية.
إنّ تفكيك المتاروايات لا يعني السقوط في العبث أو النسبية المطلقة، بل هو دعوة إلى تأريخ تعددي، نقدي، ومسؤول، يُنصت للأصوات المختلفة، ويعيد كتابة الماضي بوصفه فضاءً للتفاوض والتعدد لا ميدانًا للحقيقة المطلقة. إن أزمة الكتابة التاريخية في زمن ما بعد الحداثة ليست علامة موت التاريخ، بل علامة على ضرورة ولادته من جديد، خارج سلطان السرديات الشمولية، وفي أفق الحرية والتعدد.
12 juillet 2025 - 14:00
12 juillet 2025 - 12:20
10 juillet 2025 - 14:00
10 juillet 2025 - 10:00
02 juillet 2025 - 18:00
04 juillet 2025 - 13:00
10 juillet 2025 - 14:00