بقلم: د. عمر لمغيبشي
في سياق دولي وإقليمي تتقاطع فيه التحديات الاقتصادية والبيئية والسياسية، ألقى جلالة الملك محمد السادس خطاب العرش يوم 29 يوليوز 2025، مؤكداً مرة أخرى أن المغرب، في ظل القيادة الملكية، يختار مسار الإصلاح العميق، والاستقرار الذكي، والانفتاح الهادئ على المستقبل. هذا الخطاب جاء ليعيد التأكيد على أن المشروع المغربي ليس عابرًا، بل هو رؤية متكاملة لبناء دولة حديثة ذات سيادة اقتصادية وعدالة اجتماعية واستباق استراتيجي للمستقبل.
لا يُخفي الخطاب الملكي انخراط المغرب في مسار الصعود الاقتصادي القائم على التصنيع، والتحديث، والانتقال الطاقي، حيث لم تعد الدولة تكتفي بدور المتفرج على تحولات السوق العالمية، بل أصبحت شريكًا صناعيًا وطاقيًا فاعلًا، يُنتج السيارات ويُطوّر الطاقات النظيفة، ويراهن على الأمن الغذائي والمائي في منطقة تُعد من الأكثر هشاشة في العالم. والأهم أن هذا التحول ليس فقط رقمًا في مؤشرات النمو، بل هو فلسفة شاملة تستند إلى الإنصاف المجالي، والانخراط الجماعي، واعتبار الخصوصيات المحلية محركًا للتنمية بدل أن تكون عبئًا عليها.
وقد عكس الخطاب تحول الدولة من إدارة مركزية جامدة إلى دولة تعتمد على المعطيات والإحصائيات الحديثة في صياغة القرار العمومي، وتستند إلى نتائج الإحصاء العام للسكان لسنة 2024 في وضع السياسات الاجتماعية والمجالية، في ما يشبه انتقالًا إلى “الدولة التحليلية” التي تصغي وتحلل وتُعيد التوزيع على قاعدة الموضوعية والتكافؤ. وهي إشارة عميقة إلى أن مفهوم التنمية لم يعد عمومياً ومجرداً، بل أصبح ملموساً، منفتحاً على التباينات المجالية، وحريصاً على الكرامة الاجتماعية.
الخطاب لم يُغفل الجانب السياسي، بل أكد من جديد احترام البلاد لدينامية التداول الديمقراطي وتنظيم الانتخابات في آجالها، مع ضرورة تطوير المنظومة الانتخابية بما يستجيب لتطلعات المواطنين ويضمن شفافية المسار الديمقراطي. إنها دعوة لطبقة سياسية جديدة، أكثر التصاقًا بالواقع، وأكثر قدرة على تأطير المواطن بدل استنزافه بالشعارات، ولبرامج تستند إلى الفعل لا إلى الوعود.
أما على المستوى الإقليمي، فقد حرص جلالة الملك على توجيه خطاب عقلاني وأخوي إلى الجزائر، داعياً إلى تجاوز منطق القطيعة وتغليب منطق الحوار والتوافق. هذه الدعوة المستمرة لفتح صفحة جديدة تؤكد أن المغرب لا ينخرط في منطق التوتر، بل في منطق بناء مغرب عربي موحد، قادر على الاستجابة للتحديات القارية والدولية. إن تمسك المغرب بالاتحاد المغاربي ليس موقفًا عاطفيًا، بل هو تقدير استراتيجي بأن مستقبل المنطقة لا يبنى إلا بالتكامل لا بالصراعات.
خطاب العرش لهذه السنة ليس مجرد إعلان عن توجهات عامة، بل هو تعبير عن وعي عميق بتحولات العالم، ورسالة إلى الداخل والخارج بأن المغرب يتغير، ويتقدم، ويبني نموذجه الخاص برؤية مغربية خالصة: نموذج السيادة الرشيدة، والتنمية المتوازنة، والانفتاح المدروس. لقد أصبح المغرب فاعلاً لا تابعاً، مُصدِّراً للثقة لا باحثاً عنها، وصانعاً لمصيره لا رهينة لتقلبات الخارج.
ولعل ما يمنح هذا الخطاب أهميته القصوى هو كونه يُجسد التقاء إرادة العرش برغبة الأمة في الإصلاح والتقدم، ويشكل خارطة طريق واضحة لمرحلة ما بعد الأزمات: ما بعد الجائحة، ما بعد اضطرابات الطاقة، ما بعد غموض العلاقات الإقليمية. إنه خطاب مغرب يخطو بثبات نحو المستقبل، مُسلحًا بالإرادة، والشرعية، والرؤية، في زمن يتعثر فيه كثير من الدول في تحديد مكانها وسط عواصف عالم متغير.
29 juillet 2025 - 22:16
29 juillet 2025 - 21:25
29 juillet 2025 - 19:50
29 juillet 2025 - 17:15
29 juillet 2025 - 14:30
25 juillet 2025 - 09:00
25 juillet 2025 - 12:00