عبد القادر الفطواكي
لا تُقاس العظمة في كرة القدم بعدد الكؤوس وحدها، بل في صمت الرجال الذين صنعوا المجد دون أن يزاحموا عليه. من بين هؤلاء، يبرز اسم مصطفى مديح، كعلامة فارقة في سجل الكرة الوطنية، وكأنموذج نادر لمدربٍ آمن بأن العمل الصامت قد يدوّي أثره أكثر من ألف تصريح.
في صمت يشبه صمته الأبدي، رحل مصطفى مديح عن هذا العالم في الرابع من شهر نونبر 2018، دون صخب ودون وداع إعلامي يتناسب مع مقامه في ذاكرة الكرة المغربية. لم يكن رجل كاميرات، بل كان رجلاً من أولئك الذين لا يظهرون إلا في لحظة إنجاز، ويختفون قبل أن تُرفع الكؤوس، مخلِّفين وراءهم أثرًا صامتًا لا يُمحى.
لم يكن الراحل مديح رجل أضواء، بل رجل مبادئ. لم يطارد شهرةً، بل كان يصنعها لغيره. لم يطلب لنفسه بطولة، بل منحها لفرق ومنتخبات لم يكن يُراهن عليها أحد، كان ينتمي إلى جيلٍ نادر من المدربين الذين يوقّعون بالعرق لا بالتصريحات، وبالعمل لا بالعدسات، وبالصدق لا بالندوات الصحفية.
سفر من أجل الطب.. وعودة لصناعة مجد كروي
ولد مديح في الفاتح من شهر يناير 1956 بالدارالبيضاء، وكأن العام الجديد كان أول ما منحه العالم ليحمل عنه عبء البدايات. استهل مصطفى مديح مساره كسائر أبناء العاصمة الاقتصادية باللعب في بطولات الأحياء، ليلتحق بنادي راسينغ البيضاوي للفئات الصغرى ويتدرج فيه، إلى حين حصوله على شهادة البكالوريا، بعدها قرر الرحيل إلى بلجيكا لدراسة الطب، ولكن الظروف لم تسمح له بالحصول على الشهادة للتخرج كطبيب.
موازاة مع دراسته الطب في بلجيكا، لم ينس الراحل مصطفى مديح شغفه الكبير بكرة القدم، حيث التحق في العاصمة بروكسيل بالمعهد الملكي البلجيكي لتكوين المدربين، ومنه حصل على الشهادة بامتياز، ودرب عدة فرق صغيرة في إطار تكوين المدربين.
استهل مصطفى مديح مساره كسائر أبناء العاصمة الاقتصادية باللعب في بطولات الأحياء، ليلتحق بنادي راسينغ البيضاوي للفئات الصغرى ويتدرج فيه، إلى حين حصوله على شهادة البكالوريا، بعدها قرر الرحيل إلى بلجيكا لدراسة الطب، ولكن الظروف لم تسمح له بالحصول على الشهادة للتخرج كطبيب.
المدرب الذي احترم اللعبة... فاحترمته
منذ خطواته الأولى في التدريب، بدا واضحًا أن الرجل لا يرى في كرة القدم مجرد مباراة، بل مهنة شريفة وأمانة فنية وإنسانية، أشرف على فرقٍ وطنية عديدة: من النسمة البيضاوية إلى الجيش الملكي، ومن المرج الليبي إلى الوكرة القطري، مرورًا بـأولمبيك خريبكة، ورجاء أكادير، وحسنية أكادير، وشباب المسيرة، وشباب الريف الحسيمي… كل نادٍ دربه كان يعود مختلفًا أكثر انضباطًا، أكثر ثقة، وأكثر احترامًا لروحه الجماعية.
كانت بداية المدرب الراحل سنة 1985 مع نادي المروج الليبي. التجربة استمرت لمدة 3 مواسم، نجح خلالها من تصعيد الفريق إلى الدوري الممتاز. بعد عودته إلى المغرب التحق مديح بفريق النسمة البيضاوية كمساعد مدرب، وهو الفريق الذي كان ينشط آنذاك في الدرجة الثانية.
وبعد سنة من التحاقه برجاء أكادير، قررت إدارة النادي إقالة المدرب الأول، وتعيين مساعده الأول مصطفى مديح على رأس الإدارة الفنية. سيقدم ابن مدينة الدار البيضاء واحدا من أحسن مسارات فريق رجاء أكادير في تلك الحقبة، حيث لعب الفريق مباراة الصعود إلى القسم الأول لكن الحظ لم يحالفه ضد المغرب التطواني.
بعد مغادرته رجاء أكادير، انتقل مصطفى مديح إلى فريق القوات المساعدة (شباب المسيرة حاليا) ليقوده من الدرجة الثانية إلى الدرجة الأولى، ويصل به إلى نهائي كأس العرش. حيث صار الفريق واحدا من أندية البطولة التي تقارع الكبار، ثم انتقل بعد ذلك إلى عدة أندية في الدرجة الأولى، منها رجاء بني ملال.
بعد سنوات أشرف فيها على المنتخبات الأولمبية، عاد مصطفى مديح إلى تدريب الأندية من بوابة أولمبيك خريبكة، حيث حقق مع الفريق الفوسفاطي، ثنائية كأس العرش سنة 2006 والدوري المغربي لموس 2006/2007.
وفي السنة الموالية، انتقل إلى فريق الجيش الملكي، محققا معه ثنائية كأس العرش 2008 والدوري لموسم 2007/2008. سيخوض مديح في نهاية الموسم تجربة احترافية جديدة بالخليج وبالتحديد مع نادي الوكرة القطري لموسمين، ليعود بعدها إلى البطولة الوطنية ويدرب الجيش الملكي وحسنية أكادير وشباب الريف الحسيمي.
لكنه كان دائمًا أكبر من الأندية، كانت روحه تنتمي للمغرب كله، لذلك لمع اسمه حين أمسك بزمام المنتخبات الصغرى، خاصة حين قاد المنتخب المغربي لأقل من 20 سنة إلى الذهب الفرانكوفوني سنة 2001 في كندا، بعد انتصار بطولي على فرنسا. ذلك اللقب لم يكن مجرد تتويج، بل كان إعلانًا بأن المدرب المغربي قادر على المنافسة متى توفرت له الأدوات والاحترام.
ثم قاد المنتخب الأولمبي في أولمبياد أثينا 2004، محققًا فوزًا مشرفًا على العراق، وإن لم يكن كافيًا للعبور، فقد أكد على أن الفكرة كانت موجودة، والبصمة كانت واضحة.
وكانت آخر محطات الراحل مصطفى مديح تعيينه سنة 2015 مدربا للمنتخب المغربي أقل من 17 سنة. لقد كانت شخصيته مزيجًا نادراً بين القوة في صمت، والعطاء بلا مقابل، والكبرياء المتواضع. لم يطلب شيئًا لنفسه، لكنه أعطى كل شيء لكرة القدم المغربية، وظل حتى لحظاته الأخيرة يدرّب الأجيال الشابة في الإدارة التقنية الوطنية.
مديح .. المدرب الذي لم يمت
لا تموت الشخصيات التي تشبه الشموع. مصطفى مديح كان واحدًا من هؤلاء. رجل خدم الكرة المغربية بصمتٍ نقيّ، ونزاهة نادرة، وترك أثرًا في كل من تعامل معه، سواء لاعبًا، أو زميلًا، أو خصمًا. لم يشتكِ يومًا، لم يتراجع يومًا، ولم يساوم يومًا.
مصطفى مديح لم يكن فقط مدربًا ناجحًا، بل حارسًا وفيًّا لأخلاق اللعبة، وسفيرًا هادئًا لقيم العمل والالتزام والكرامة. ومثل كل الكبار الذين لا يحتاجون إلى أضواء، اختار أن يغادر في صمت، كما عاش، تاركًا وراءه مجدًا لا يعلو صوته، لكنه لا يغيب صداه.
08 août 2025 - 13:00
07 août 2025 - 15:00
07 août 2025 - 12:00
04 août 2025 - 10:00
03 août 2025 - 19:00
31 juillet 2025 - 15:56