عزيز بوستة:
دعونا نلقي نظرا شمولية على الجو العام، فمنذ حوالي السنة، تهب على المغرب رياح قوية من السخط الاجتماعي، بسبب غلاء المعيشة، وارتفاع معدلات بطالة الشباب، والتساهل في مواجهة الفساد بجميع أشكاله. في مطلع شتنبر، أجرى رئيس الحكومة حوارًا مع القناة العمومية، مما زاد من حدة هذا التذمر الشعبي. وفي أعقاب المأساة التي شهدها مستشفى أكادير أواخر غشت، أطلق الشباب، المعروفون باسم جيل "Z" (GenZ - 212)، دعوة إلى التظاهر احتجاجًا على أوضاع الصحة والتعليم والبطالة.
وفي هذا السياق المتوتر، يأتي الخطاب الملكي التقليدي أمام البرلمان.
تُنتظر خطابات الملك دائمًا بترقّب كبير، لأن كلماته نادرة، على عكس حضوره الإعلامي. فهذا هو أسلوب محمد السادس: قليل الكلام، يعلن قراراته عبر بلاغات رسمية، ويعبّر عن مواقفه بأفعال رمزية، وإشارات ذات دلالات عميقة.
الخطاب الذي ألقاه أمس كان محطّ أنظار الجميع، ينتظره المغاربة داخل البلاد وخارجها، لأسباب واضحة. ففي المغرب، كما في أماكن أخرى، عبّر شباب جيل "Z" عن غضبهم، وعن خيبة أملهم، وعن يأسٍ بدأ يتسلل إليهم. احتجّوا وتظاهروا، خرجوا إلى الشوارع، رفعوا شعاراتهم، نظموا صفوفهم عبر منصة "ديسكورد"، تواصلوا على "فيسبوك" و"تيك توك"، وحشدوا دعم الأجيال السابقة من "X" و"Y". بل إنهم أعدّوا "ملف مطالب" في شكل لائحة اتهامية صارمة، دقيقة التنظيم والحجة، يصعب تفنيدها، موجّهة ضد الحكومة عمومًا، وضد رئيسها خصوصًا. لقد كسروا جدار الصمت، ولا يبدو أنهم ينوون التراجع.
ثم قرروا تعليق تظاهراتهم مؤقتًا، ليوم واحد فقط، هو اليوم الذي كان الملك سيفتتح فيه البرلمان في أجواء رسمية مهيبة.
جاء ردّ الملك في خطاب مقتضب، مكثف، لم يتجاوز ثماني دقائق. وكأن لسان الحال يقول: " إذا ظهرت المعنى فلا في التطوال », لكن الردّ كان سياسيًا، منضبطًا لمنطق الدستور، فجاءت النتيجة بمثابة صدمة باردة… خيبة أمل عامة !.
لماذا؟ ماذا كان الناس ينتظرون إذًا؟ لقد كانوا ينتظرون أن يتفاعل رئيس الدولة بقوة وبشيء من الغضب، أن يُقيل المسؤولين واحدًا تلو الآخر، أن يُوبّخ علنًا المئات من الحاضرين أمامه، أن يذكر الشباب ومطالبهم بالاسم، وأن يحثّ الأجيال الأكبر سنًّا على الانضمام إليهم... لكن ذلك ليس من أسلوب الملك، ولا من صلاحياته الدستورية، إذ إن سلطاته محددة بدقة.
ومع ذلك، فإن هذا الخطاب يُعدّ في جوهره دعوة إلى الفعل. فحين يقول الملك بضرورة إرساء ثقافة النجاعة والنتائج، ويستعمل لفظ "غير مقبول" للتنديد بسوء التدبير والتردد، فإن ذلك يمكن فهمه كدعوة مضمَرة إلى المواطنين لمطالبة بحقوقهم، ورفض الإهمال والتقصير، كما أنه في الوقت نفسه تذكير صارم لكل من يشغل منصبًا عامًا أو يتحمل مسؤولية، ممن يكتفون بتقديم أرقام غير دقيقة ونتائج تبقى على ضوء الواقع، محلّ شك وتساؤل كبيرين.
إن التذكير بضرورة أخذ المناطق الجبلية، والمجالات الساحلية، والجهات القروية بعين الاعتبار، هو في الواقع امتداد لخطاب الملك يوم 29 يوليوز الماضي، الذي ندد فيه بوجود "مغرب بسرعتين".
والحق أن مع هذا الحكومة وهذه الطبقة السياسية، يبدو أن التكرار ليس عيبًا بل ضرورة، فالتذكير مرة، بل مرتين أو ثلاث، صار أكثر من واجب.
فالملك، على سبيل المثال، دعا في مناسبتين سابقتين الحكومة إلى وضع سياسات عمومية موجهة لمغاربة العالم، لكن لم يصدر عن الحكومة شيء إلى اليوم. كما أن الملك قام، من جانبه، بكل ما يلزم لإصلاح مدونة الأسرة، غير أن البرلمان لا يزال جامدًا، دون أي مبادرة ملموسة.
في الحقيقة، تكمن المعضلة في التركيبة نفسها لمجلس النواب (أما مجلس المستشارين فلا يملك صلاحية إسقاط الحكومة، ولم يحدّث حتى نظامه الداخلي كما ينبغي). فالأغلبية الحالية واسعة أكثر من اللازم، مريحة أكثر من اللازم، وسهلة أكثر من اللازم، ومن ثم متعجرفة أكثر من اللازم تجاه الجميع، بما فيهم الشعب نفسه!.
ومع ذلك، كان الجو داخل قبة البرلمان يوم الجمعة أقرب إلى الاعتراف بالذنب، حيث شعر النواب والوزراء – وعن حق – بأنهم يتحملون مسؤولية الوضع الاجتماعي الصعب الذي يعيشه البلد.
لكن أبرز من طغى عليه هذا الشعور هو حزب التجمع الوطني للأحرار (RNI)، الحزب الأغلبي المهيمن، والذي يُظهر هيمنة فجة وغير حكيمة. وليس من قبيل الصدفة أن يكون هذا الحزب أول من أصدر بلاغًا "يهنئ نفسه" بعد الخطاب الملكي، تلاه في اليوم الموالي حزب الأصالة والمعاصرة (PAM)، ثم حزب الاستقلال بطبيعة الحال.
إنها سياسة المدرسة الكلاسيكية، التي تكتفي بإصدار بلاغات رضا بعد الخطب الملكية، من دون تطبيق فعلي لما تحمله من توجيهات أو مضامين إصلاحية.
لم يكن من المنطقي أن ننتظر من الملك أن يتخذ إجراءات ضد البرلمان أو الحكومة، لأن الأمر ببساطة لا يدخل ضمن صلاحياته، إلا إذا قرر حلّ البرلمان. لكن، السؤال المطروح هو كالآتي : هل يحتاج الوضع في البلاد فعلاً إلى خلق أزمة سياسية كبرى تضاف إلى الأزمة الاجتماعية الراهنة؟ وهل يسمح الظرف الدولي للمغرب بذلك — بالنظر إلى التزاماته في مجلس الأمن، وتنظيم كأس إفريقيا للأمم وغيرها؟.
الجواب: لا. فحلّ الإشكال يبقى بيد من تسبب فيه أساسًا، أي الطبقة السياسية.
فالمعارضة غائبة الصوت، لأنها منقسمة وضعيفة عددًا وتأثيرًا، أما الأغلبية فتمارس سياسة التواري، تنتظر مرور العاصفة. لكنها، بهذا السلوك، تحكم مسبقًا على انتخابات 2026 بالفشل من حيث نسبة المشاركة، إذ من المنطقي أن يتساءل المواطنون: ما الجدوى من التصويت إذا كنا سنُنتج نفس المؤسسات التي تفرّ أطرها إلى الملاجئ عند أول زوبعة سياسية؟
ولن يكون الممتنعون عن التصويت من جيل “Z” فقط، بل من أجيال سابقة أيضًا. فكيف يمكن تحقيق طموحات المغرب والمغاربة في ظل طبقة سياسية بهذا الحجم من الصِغَر؟.
أما المفارقة الكبرى، فهي أن من يطالب اليوم بتدخل الملك، هم أنفسهم الذين ينادون بإقامة مؤسسات فاعلة ونظام ديمقراطي حقيقي. غير أن الديمقراطية، في جوهرها، تقوم على المؤسسات ذاتها. فإذا لم نتعلم الثقة في مؤسساتنا، ومحاسبتها عند الحاجة، فلا معنى إذن للمطالبة بممارسة ديمقراطية، إن كان الهدف هو الرجوع الدائم إلى الملك والاتكال عليه.
ومع ذلك، لن تتوقف الأمور عند هذا الحد. فالملك يظل الحَكَم الأعلى الذي يُلجأ إليه عند حدوث انسداد سياسي. والطرفان اللذان قد يطال حكمه هما: جيل الشباب “Z” بمطالبه، وعلى رأسها رحيل الحكومة ومحاسبة المسؤولين، من جهة، والحكومة وأغلبيتها من جهة أخرى.
فالشباب لن يكتفوا بخيبة أملهم، وقد أعلنوا بالفعل استمرار حركتهم، في حين يجب على الحكومة ألا تعتبر نفسها في مأمن.
إن تحكيمًا ملكيًا على طريقة محمد السادس قد يحدث عاجلاً أم آجلاً، لكن لا أحد يعلم الشكل الذي سيتخذه، أسيكون مباشراً أم غير مباشر.
وفي الانتظار، يكون جيل “Z” قد نجح في جعل صوته مسموعًا، بل وفرض نفسه كقوة مجتمعية، ليُظهر أن أمام السلطة، يمكن أن توجد قوة مضادة.
10 octobre 2025 - 17:35
10 octobre 2025 - 16:00
10 octobre 2025 - 11:00
09 octobre 2025 - 17:15
09 octobre 2025 - 14:00
02 octobre 2025 - 00:30