عبد القادر الفطواكي
في زمنٍ تتعالى فيه الأصوات المطالبة بـ"إعادة الاعتبار"، وتتنازع فيه السرديات حول من يملك "أحقية الحديث عن اليهود المغاربة"، يطلّ المؤرخ المغربي الدكتور عمر لمغيبشي بكتابٍ هادئ في نبرته، صلبٍ في أطروحته، عنوانه: "يهود تطوان (1492 – 1900): دراسة في التاريخ والتحولات"، صادر عن منشورات باب الحكمة في جزئين.
لا يكتفي هذا العمل بتوثيق حضور الجماعة اليهودية بمدينة تطوان، بل يغامر كاتبه -وهو بالمناسبة أستاذ محاضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء ورئيس شعبة التاريخ والحضارة بنفس الكلية - بإعادة مساءلة السردية التاريخية برمّتها، مُستندًا إلى أرشيفات نادرة، ومقاربات متعددة التخصصات، في سعي علمي يتجنّب الوقوع في فخ الإيديولوجيا أو غواية النوستالجيا.
الكتاب، الذي هو خلاصة مشروع بحثي طويل النفس، اشتغل عليه المؤلف على مدى سنوات من البحث المضني وخرج إلى عالمنا سنة 2019، ينبني على سؤال جوهري: كيف نكتب تاريخًا يعترف بالتحولات، لا يكتفي بتكديس الوقائع؟ ومن هنا، اختار لمغيبشي أن يعالج موضوعه من خلال رؤية منهجية مزدوجة، تمتح من أدوات المؤرخ الكلاسيكي، وتستنير بالمناهج السوسيولوجية والأنثروبولوجية الحديثة، مما منح انتاجه العلمي نَفَسا تحليليا مُغايرا، وإمكانات تأويلية تتجاوز القوالب الجاهزة.
من الأندلس إلى تطوان... سردية ضاعت بين الصمت والنسيان
يتتبع الكتاب خيوط الهجرة القسرية ليهود الأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 1492، مسلطًا الضوء على تحوّل مدينة تطوان إلى ملاذ جديد لهؤلاء المُهجّرين، حيث انبعثت داخلها جماعة ذات خصوصية ثقافية ودينية بارزة. ولم يكن هذا الوجود مجرد لجوء تاريخي، بل تأسيس لمسار اجتماعي طويل المدى، بنى لنفسه هوية وسط بيئة جديدة، دون أن يذوب فيها بالكامل.
من خلال أرشيف "المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان" ووثائق "الاتحاد الإسرائيلي العالمي"، فضلًا عن مصادر عبرية وإسبانية، يكشف الباحث المتخصص في تاريخ الأقليات الدينية والرحلة والتراث والترجمة، عن تفاصيل دقيقة من الحياة اليومية لليهود التطوانيين، ويعيد تشكيل علاقتهم بالمجتمع المسلم والدولة المخزنية، في تفاعل معقد اتسم أحيانًا بالندية، وأحيانًا أخرى بالتوجس أو الحذر المتبادل.
تطوان... فضاء للتساكن لا الانصهار
في تحليله لبنية الجماعة اليهودية، ينتقد الكتاب النظرة التبسيطية لمفهوم "الاندماج"، مبرزا أن العلاقة بين اليهود والمسلمين في تطوان كانت علاقة تساكن ثقافي أكثر منها تعايشًا بالمعنى الحداثي للكلمة. إذ احتفظ اليهود بلغتهم الإسبانية القديمة، وطقوسهم الدينية، وهويتهم الجماعية الموروثة من الأندلس، في ظل ندرة حالات الزواج المختلط أو التحول الديني، وهو ما يعيد فتح النقاش حول المفهوم الأخلاقي والسياسي لـ"التعايش".
ومع ذلك، لم تكن المسافة الرمزية حاجزا أمام التضامن الإنساني، خاصة في لحظات الأزمات. إذ يوضح المؤلف أن هذا التفاعل أنتج نمطًا مركّبًا من الانتماء، لا يُختزل في مقولات "الأقلية" أو "الغريب"، بل يتطلب قراءة متأنية خارج ثنائية الإدماج/الإقصاء.
الذاكرة الجماعية بين التوثيق والانتماء
يشير الدكتور لمغيبشي إلى أن تطوان لم تكن مجرد مدينة لجوء، بل مركزًا روحيًا وتعليميًا للطائفة اليهودية بشمال المغرب. خرجت منها أسماء مرموقة في الحاخامية، والموسيقى، والفقه العبري، كما مثّلت بوابة لهجرة منظمة نحو أمريكا اللاتينية، حيث تأسست جاليات تطوانية حافظت على لهجتها وذاكرتها الجمعية في بوينوس آيرس وساو باولو وكراكاس.
لكن المؤلف لا يسقط في الحنين الساذج، بل يوثق أيضًا مراحل التوتر، والنزاعات العقارية، وأشكال التهميش، مبرزًا كيف أن العلاقة بين الجماعة والدولة والمجتمع لم تكن دائمًا مستقرة، بل خضعت لتقلبات السياسة والتحولات الاجتماعية.
دعوة إلى إعادة كتابة التاريخ من الداخل
في خاتمة عمله، لم يكتف المؤلف بالتأريخ، بل يُسائل وظيفة المؤرخ في زمن التحولات. فيدعو إلى مشروع وطني شامل لإعادة كتابة تاريخ اليهود المغاربة، أو "المغاربة اليهود" كما يفضل تسميتهم، من داخل المؤسسات الأكاديمية المغربية، وبأقلام مغربية، بعيدًا عن التوظيف السياسي أو السرديات الموجهة.
كما يكشف عن مشروعه القادم الذي سيهم يهود طنجة وسبتة والقصر الكبير، في محاولة لبناء خريطة علمية دقيقة لحضور اليهود في شمال المغرب، من زاوية تحررية، تؤمن بأن معرفة الذات لا تكتمل إلا عبر الاعتراف بكل روافدها.
وبين توثيق الأرشيف، ونقد السرديات، ومساءلة المفاهيم، يخرج كتاب "يهود تطوان (1492 – 1900): دراسة في التاريخ والتحولات" من مجرد كونه عملًا أكاديميًا، ليغدو إعلان نوايا بحثي عميق. نوايا تشدد على أن فهم المغرب، في تعدده وتعقيده، يمرّ بالضرورة عبر الإنصات لما تمّ تجاهله طويلًا، لا باعتباره مادة للتمجيد، بل كرافد حقيقي في تشكيل الوعي التاريخي المجتمعي.
05 juin 2025 - 10:00
04 juin 2025 - 11:00
03 juin 2025 - 09:00
02 juin 2025 - 16:00
02 juin 2025 - 12:00