عزيز بوستة
في مغرب اليوم، بات لقاء الوالي حدثا لافتا يختصر الفارق بين أجيالٍ تتبدّل وقيمٍ إدارية تتغيّر. لم يعد الوالي ذلك الاسم الذي يُلقي بظله على كل شيء كما كان في زمن الحسن الثاني وإدريس البصري، حين كانت الإدارة الترابية وجهاً صارماً لا يبتسم. تغيّر الزمن، ومعه تغيّر المسؤولون.
اثنا عشر والياً وثمانون عاملاً يشكلون اليوم خرائط السلطة الترابية بالمملكة. يُنتظر منهم تحقيق النتائج وتوفير الوسائل وترجمة الأهداف إلى واقع واقتراح الحلول.هم من الناحية المؤسساتية وجه الحكومة في الميدان، وأول من يلام وآخر من يُشكر.
بعد أن حملوا لفترة طويلة لقب: “والي/عامل صاحب الجلالة”، كانت قوّتهم مستمدة بشكل مباشر من الهيبة المستمدة من الملك؛ ذلك كان في عهد الحسن الثاني. أما مع العاهل الحالي اليوم، فعادوا مجرّد ولاة وعمال، وفق الصياغة الرسمية، من دون أن ينتقص ذلك كثيراً من نفوذهم وقوة تأثيرهم، خاصة في نظر المنتمين إلى أجيال القرن الماضي: جيل الطفرة الديمغرافية الـ «Boomers»، وجيل «X»، وأكبر سنّاً من جيل«Y» .
أمّا الآخرون من مواليد التسعينيات وما بعدها، فهم يتعاملون مع هذه الفئة من المسؤولين كما يتعاملون مع الجميع: احترامٌ نعم، لكن بحزمٍ وإصرار أيضاً. فالعالم يتغيّر، والمغرب يتغيّر، ولم تعد القداسة تُخلَق للبشر؛ وقد استُعيض عنها بشكل أفضل بالكفاءة أو، عند تعذّرها، على الأقل بالإرادة نحو الكفاءة.
وبين أولئك، يبرز والي الدار البيضاء، محمد مهيدية، رجلٌ صارم وحازم، كما كان أسلافه «البصريّون» أو «البصراويون»؛ غير أنّ خشونته وحزمه ليسا قناعاً إدارياً مُرعباً، بل طبعٌ شخصي أصيل. يعرفه من يعرفه رجلاً لبقاً مهذباً، لكنّه مع ذلك صلبٌ وصارم، وهو ما ينعكس ــ ولحسن الحظ ــ في دينامية التغيير التي تعيشها العاصمة الاقتصادية. وطريفٌ أن هذه الصلابة في شخصه تمنح للقاءات معه مسحة خفيفة من الدعابة والعفوية، قد تكون لا إرادية وربما مقصودة، لكنها تكسر حدّة الجلسات وتلطّف أجواءها.
دقيق في المواعيد وسريع الحسم، يمدّ يومه بقدر ما تتطلبه الدار البيضاء، متنقلاً بين اجتماعات قصيرة، يُقَيَّم فيها ما تقرّر في الاجتماع السابق، ويُضبط خلالها ما يجب اتخاذه في الذي يليه. يعيش مساعدوه إيقاعًا سريعا وهم يلهثون خلف إيقاع عالي الوثيرة لجعل الدار البيضاء أفضل كي تصبح الدار البيضاء أفضل. المهمة ليست يسيرة، لكن النية موجودة، والوسائل مسخَّرة.
خلال هذا الأسبوع، وعلى غرار باقي الولاة والعمال، وانسجاما مع توجيهات مركزية، أشرف مهيدية على لقاء واسع للاستماع والتشاور، شاركت فيه هيئات منتخبة، وجمعيات أحياء، وفعاليات من المجتمع المدني. الهدف موحّد في كل جهات البلاد: الإصغاء للمواطنين، جمع مطالبهم، رصد اختلالاتهم، ثمّ توحيدها ومعالجتها بعقلانية، وصولاً إلى محاولة إيجاد حلول له. في إطار برامج جديدة للتنمية الترابية المندمجة. كلمة «مندمجة» مفتاح هذه المقاربة، لأنها تُشرك الساكنة في رؤية تشاركية. وقد حضر المواطنون بكثافة، وشاركت بصدق وأحيانا بعفوية صاخبة، قالوا كل شيء، وكشفوا عن كل شيء، وطرحوا حقائقهم مباشرة في وجه ممثلي السلطة: والي، عمال، قياد، رؤساء مصالح وأقسام، منتخبون…
اللافت أن جزء كبيرا من المتدخلين أثنى وشكر الوالي على زياراته الميدانية، واهتمامه بما لا يسير، وتواضعه أمام ما يشتغل، وعلى حسه الإصغائي وتفاعله السريع؛ وهو أمر غير مسبوق ويستحق التنويه. والغريب في المقابل، أن أحدًا لم يمنح التزكية ذاتها لأي من عمال مقاطعات الدار البيضاء الثمانية، ولا لعمدة المدينة أو منتخبيها. وكأن محمد مهيدية وحده، إلى جانب الأرقام والمنجزات، من يهتم فعلًا بالسكان ويذهب إليهم!
وهنا ربما يكمن أصل المشكل… مشكل القرب بين المسؤولين ومن يُسيّرون شؤونهم، وبالتالي مشكل الثقة التي يضعها هؤلاء في أولئك. فنحن نعلم أن أزمة المنتخبين المحليين والجهويين قائمة في هذا البلد؛ فبمجرد انتخابهم، يصبح معظمهم بعيدين، متعاظمين… ويقطعون الصلة بمن صوت عليهم. أما بعضُ عمال مقاطعات الدار البيضاء، المتشبّعين بثقافة “الداخلية البصرية"، فلا يُقْبِلون ولا يُقبَل عليهم، يوزّعون على الحشود نظرات صارمة لمسؤولين منشغلين!
اليوم، وبعد الخطاب الاستشرافي للملك محمد السادس حول «المغرب بسرعتين» في يوليوز، وبعد حركة السخط التي قادها جيل «Z» في شتنبر، شرعت وزارة الداخلية في نهج ترابي جديد يقوم على القرب، والإنصات، والمقاربة التشاركية. وهو ما يُذكّر، إلى حدّ ما، بجلسات الحوار الكبرى التي نظمها إيمانويل ماكرون مع «السترات الصفراء» بفرنسا، أو إيفو موراليس في بوليفيا. هذا التطهير الشعبي أثبت جدواه هنا وهناك. غير أن الواقع المغربي مختلف: فالمغرب مملكة، وبالتالي فالشكل مختلف أيضًا؛ وحيث يعجَز أو يُعجَّز الفاعل السياسي عن الشرح، يتكفّل رجال الإدارة الترابية بامتداد الرسالة الملكية.
ومن هنا تغدو “الشكليات” عنصرًا جوهريًا؛ فإذا ما استُتبَّت، يجب أن تنطلق الإصلاحات. وإلا تحولت الشكليات إلى “كلوروفورم” سريع التبخر… كما أن إرساء تواصل مباشر للولاة والعمال، أو على الأقل وظيفة ناطق رسمي أو مكلّف بالتواصل داخل الولايات، بات ضرورة لإيصال المعلومة وتفسير القرارات للساكنة؛ كما هو الحال في الدار البيضاء مع قضيتي المشروع الملغى للفندق بشارع الزرقطوني، وملف هدم ما يُعرف بـ”كرملين بوسكورة”…
في المغرب، يشتغل المسؤولون الترابيون على جوهر الإشكالات، ويولون الشكل اهتمامًا متزايدًا. لكن في بلد مثل بلدنا، يبقى الشكل بنفس أهمية الجوهر، بل ربما أكثر؛ حتى أنه ينبغي أن يصبح معيارًا أساسيًا لاختيار هؤلاء المسؤولين، سواء كانوا معيّنين من فوق مثل الولاة والعمال، أو منبثقين من صناديق الاقتراع مثل المنتخبين المحليين. وإلا سيستمر حوار الأذان الصماء… وستتصرف الأجيال المقبلة بطريقتها الخاصة.
18 novembre 2025 - 19:00
17 novembre 2025 - 10:00
16 novembre 2025 - 09:00
15 novembre 2025 - 12:00
14 novembre 2025 - 22:00
عندكم 2 دقايق08 novembre 2025 - 13:00
06 novembre 2025 - 16:00
07 novembre 2025 - 14:00
07 novembre 2025 - 18:00
07 novembre 2025 - 17:00