عبد القادر الفطواكي
لم ولن يكن يوم أمس الأحد الموافق للتاسع عشر من أكتوبر 2025 يوما عادياً في ذاكرة المغاربة، تاريخ احتفل فيه الجمهور المغربي بفرحة تتويج “أشبال الأطلس” بلقب كأس العالم لأقل من عشرين سنة في الشيلي، في موعد تزامن مع فرحة أخرى أعمق في معناها وأبعد في أثرها، تمثلت في قرارات ملكية غير مسبوقة حملها المجلس الوزاري برئاسة الملك محمد السادس، رسمت ملامح مرحلة جديدة من الإصلاح السياسي والاجتماعي في المغرب.
فبينما كان شبان المنتخب الوطني يكتبون صفحة مشرقة من سجل كرة القدم العالمية بالشيلي، كان الملك محمد السادس يخطّ بخطى ثابتة مسارا إصلاحيا يؤكد أن الاستثمار في الإنسان هو الرهان الأكبر لمستقبل الوطن. إذ لم يكن صدفة أن تتزامن لحظة التتويج الرياضي مع لحظة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في مشهد يعكس فلسفة الدولة المغربية في بناء وطن متوازن بين الفعل الرمزي والتحول الواقعي.
البلاغ الصادر عن الديوان الملكي عقب المجلس الوزاري يوم أمس، كشف عن توجّه نوعي في إدارة الشأن العام، عنوانه توسيع قاعدة المشاركة السياسية للشباب والنساء، وإعادة الاعتبار لقطاعي التعليم والصحة، باعتبارهما المدخلين الأساسين لبناء مغرب متماسك ومتين. فمشروع قانون المالية لسنة 2026 لم يكن مجرد وثيقة تقنية بالأرقام، بل كان إعلانا عن إرادة سياسية واضحة لتجسيد مفهوم "الدولة الاجتماعية" على أرض الواقع، من خلال تخصيص غلاف مالي ضخم قدره 140 مليار درهم، وإحداث أزيد من 27 ألف منصب مالي جديد في قطاعي التعليم والصحة، إلى جانب إطلاق مشاريع بنيوية في مختلف جهات المملكة.
لكن البعد الأعمق في هذا التحول لم يكن ماليا فقط، بل سياسيا أيضا، إذ حملت التعديلات المقترحة على القوانين التنظيمية لمجلس النواب والأحزاب السياسية دلالة رمزية قوية، حين تم فتح الباب أمام الشباب دون الخامسة والثلاثين للترشح للانتخابات، سواء عبر الأحزاب أو بشكل مستقل، مع تمويل 75% من مصاريف حملاتهم الانتخابية. إنها خطوة جريئة تُعيد صياغة العلاقة بين المواطن والمؤسسات، وتمنح جيل "Z" مكانته المستحقة في هندسة المستقبل السياسي للمغرب.
إن تجديد النخب لم يعد خيارا تجميليا بل ضرورة تاريخية. فحين تخرج أجيال جديدة إلى الشارع مطالبة بالإصلاح، فإن الرسالة الأصدق ليست في مجاراتها بشعارات ظرفية، بل في تمكينها من أدوات الفعل المؤسسي. ومن هنا، يتجلى العمق السياسي لقرارات المجلس الوزاري الأخير، الذي تجاوز منطق التهدئة إلى منطق التأسيس، واضعا الشباب في صلب العملية الديمقراطية، لا في هامشها.
إن قرارات من هذا الوزن تعكس وضوح الرؤية وجرأة الاختيار. فالإصلاحات التي تمت المصادقة عليها في المجلس الوزاري ليست مجرّد تفاصيل تقنية، بل هي تجسيد عملي لتوجيهات ملكية عبّر عنها ملك البلاد في خطابَي عيد العرش وافتتاح الدورة التشريعية للبرلمان، حيث دعا إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإلى جعل الشباب شريكا في صناعة القرار لا متفرجا عليه.
خطوات تؤكد أن صوت الشارع مسموع، وأن الدولة لا تنفصل عن نبض المجتمع، بل تُصغي بعناية للأجيال الصاعدة، وفي مقدمتها جيل الشباب المعروف بـ"جيل Z".، جيل لم يعد يكتفي بوعود فضفاضة أو شعاراتٍ عابرة، بل يطالب بسياسات عمومية ملموسة تُترجم العدالة المجالية إلى واقع معاش، وتفتح أمامه آفاقاً حقيقية في التعليم والتشغيل والصحة. وقد وجد هذا الجيل في التوجيهات الملكية الأخيرة صدى صادقا لتطلعاته، بعدما دعا الملك الحكومة إلى اتخاذ تدابير عملية ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2026، تُعيد الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة وتمنح الإصلاح بعده الملموس لا الخطابي.
إنها إشارة ملكية قوية إلى أن الإصغاء لمطالب الشباب ليس مجاملة ظرفية، بل خيار استراتيجي ضمن مسار المغرب الجديد؛ مغرب يضع الإنسان في صلب أولوياته، ويؤمن بأن مستقبل الوطن يُبنى بأيدي شبابه. فالرؤية الملكية لم تعد تقتصر على معالجة القضايا الآنية، بل تمتد إلى إعادة هندسة السياسات العمومية لتتلاءم مع التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها المغرب والعالم.
كما أن التوجيهات الملكية المتكررة بشأن دعم الشباب وتوسيع قاعدة المشاركة في التنمية، تُترجم إرادة سياسية واضحة في بناء مغرب الفرص، مغرب يربط بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ويجعل من الكفاءة والجدارة معياراً للنجاح. ومن هنا، تبدو الكرة اليوم في ملعب الحكومة: فإما أن تثبت قدرتها على تحويل التوجيهات إلى منجزات، أو أن تخسر رهان الثقة الذي منحه الملك لجيل ينتظر الفعل أكثر من القول.
وفي خضم هذه الدينامية، لا يمكن تجاهل البعد الرمزي لما تحمله الأحداث المقبلة من دلالات، وعلى رأسها احتضان المغرب لكأس العالم 2030، الذي سيكون مناسبة لإبراز وجه المغرب العصري المتجدد، ومكافأة لمسار إصلاحي قاده الملك بحكمة وتبصر. فالإصلاحات التي شملت البنيات التحتية، والمنظومة الصحية، والتعليم، والحماية الاجتماعية، ليست مجرد أوراش تقنية، بل ركيزة لرؤية استراتيجية تجعل من الإنسان المغربي مركز كل تحول.
إن المغرب، كما أراده الملك محمد السادس، يدخل مرحلة جديدة من نضج الدولة والمجتمع معاً، حيث يصبح الإصغاء للجيل الجديد جزءاً من مقومات الحكم الرشيد، ويغدو الاستثمار في الإنسان أهم من أي مشروع آخر. تلك هي الرسالة الجوهرية التي يمكن قراءتها اليوم: بناء مغرب لا يكتفي بإدارة الحاضر، بل يُصمم المستقبل بثقة، وعزيمة، ورؤية بعيدة المدى.
في مشهد متكامل يجمع بين الفرحتين، الرياضية والسياسية، يمكن القول إن المغرب يعيش لحظة نادرة من الانسجام بين طموح جيل يصنع المعجزات على الملاعب، وقيادة عليا تترجم الإصلاح إلى قرارات مؤسساتية قابلة للتنفيذ. فكما رفع "أشبال الأطلس" راية الوطن في سماء الشيلي، يرفع الملك محمد السادس راية الإصلاح في سماء السياسة والاقتصاد، لتتأكد مرة أخرى تلك القاعدة التي رسّخها في كل محطة مفصلية: أن النهضة الحقيقية تبدأ من الإنسان، وتنتهي إليه.
إن ما شهده المغرب نهاية هذا الأسبوع ليس صدفة ولا تراكما معزولا للأحداث، بل تجلٍّ لمرحلة جديدة من الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، وبين الشباب والمؤسسات. فالمستقبل لا يُمنح، بل يُبنى. والمغرب، كما يبدو اليوم، يبنيه بشبابه، وبملك يؤمن بأن الاستثمار في الوعي، تمامًا كما في الرياضة والتعليم والسياسة، هو الطريق الأكيد نحو وطن صاعدٍ بثقة وثبات.
03 octobre 2025 - 09:40
29 septembre 2025 - 20:00
21 septembre 2025 - 10:00
02 septembre 2025 - 14:00
01 septembre 2025 - 21:00